كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واحتج بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ».
فدل على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرمًا.
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمحلل، وبقوله: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل».
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله: «فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه».
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختيانى، وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى. وقد قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9].
قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه.
ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات، كما هي معتبرة في القربات والعبادات، فيجعل الفعل حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وصحيحًا من وجه، فاسدًا من وجه، كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك.
وشواهد هذه القاعدة كثير ة جدًّا في الكتاب والسنة.
فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
وذلك نص في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار، فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة.
ومنها: قوله تعالى في آية الخلع: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَّمِا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيماَ حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، وأن النكاح الثانى إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، فإنه شرط في الخلع عدم خوف إقامة حدوده، وشرط في العود ظن إقامة حدوده.
ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مضُار} [النساء: 12].
فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حرامًا، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها. لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه وولده.
والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها.
فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصى أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية.
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصى أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182].
وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحًا لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ} [النساء: 19].
فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدى نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النَّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبعَضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19].
فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئًا مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل.
ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أي وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه. ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] [الزمر: 26].
ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل، لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره.
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية. فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كَنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا المَسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيُعونَ حِيَلة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97- 99].
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار، وهو حرام. فعلم أن الحيلة التي تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها. وعامة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب. فإنها حيل تخلص من الحرام، ولهذا سمى بعض من صنف في ذلك كتابه: المخارج الحرام والتخلص من الآثام واعتبر هذا بحيلة العينة، فإنها تخلص من الربا المحرم.
وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو حرام.
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذي هو حرام أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام.
وكذلك هبة الرجل ماله قبل الحول لولده أو امرأته، يخلصه من إثم منع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلص.
فالحيل تخلص من الحرج وتخلص من الإثم. والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا، وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه، وفتح طريقه.
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك. كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله. فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال، فعل المحلوف عليه، فأى شيء أفضل من تخليصه من هذا وهذا؟
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشد من موته، فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها، ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه، وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء العدة.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44].
قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا؟ وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبى الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة. فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أَمتَه. وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشئ قبلته وأدخلته. وإن لم يأتها بشئ طردته وأغلقت بابها عنه. لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به. إن أقامنى الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثًا، وهو الحزمة من الشئ، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة.
وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلًا.
قالوا: وقد أرشد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم، ثم يشترى بتلك الدراهم تمرًا. وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: «جَاءَ بِلالٌ إلى النبي صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلمَ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النبي صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسلمَ: مِنْ أيْنَ هذَا؟ قَالَ: كانَ عِنْدَنَا تمْرٌ رديء فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لنُطْعِمَ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فَقَالَ لَهُ النبي صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم عِنْدَ ذلِكَ: أوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَن تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» متفق عليه.
وفى لفظ آخر: «بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اُشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا». والجمع والجنيب نوعان من التمر.
وفى لفظ لمسلم: «بِعْهُ بِسِلْعَةٍ، ثُمّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِكَ أي التَّمْرِ شِئتَ».
فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاع بها تمرًا. وهذا ضرب من الحيلة. ولم يفرق بين بيعه ممن يشترى منه التمر، أو من غيره. وقد جاء قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تَجَارَة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ} [البقرة: 282].
وهذا إرشاد إلى حيلة العِينة وما يشبهها. فإن السلعة تدور بين المتعاقدين، للتخلص من الربا.
قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذي يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهى حيلة في الأقوال، كما أن تلك حيلة في الأعمال.
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن في معاريض الكلام ما يغنى الرجل عن الكذب.
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما يسرنى بمعاريض الكلام حمر النعم.
وقال الزهرى عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبى معيط، وكانت من المهاجرات الأول: «لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلمَ يُرَخِّصُ في شيء مَّمِا يَقُولُ النَّاسُ إِنّهُ كَذِبٌ إِلا في ثَلاثٍ: الرَّجُل يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالَّرجُلِ يَكْذِبُ لامْرَأَتِه، وَالْكَذِبِ في الْحَرْبِ».
ومعنى الكذب في ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب.
وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طليعة للمشركين، وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: «مًمَّنْ أَنْتُمْ؟ فقَالَ النبي صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ: نَحْنَ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، لَعَلّهُمْ منهم، وَانْصَرَفُوا».
وأراد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: «نحن من ماء» قوله تعالى: {خُلقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6].
ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك. فقال ما فعلت؟ فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن. فقال: فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.